فصل: قَاعِدَةٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.قَاعِدَةٌ: فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ:

التَّأْنِيثُ ضَرْبَان: حَقِيقِيٌّ وَغَيْرُهُ:
فَالْحَقِيقِيُّ: لَا تُحْذَفُ تَاءُ التَّأْنِيثِ مِنْ فِعْلِهِ غَالِبًا؛ إِلَّا إِنْ وَقَعَ فَصْلٌ، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْفَصْلُ حَسُنَ الْحَذْفُ، وَالْإِثْبَاتُ مَعَ الْحَقِيقِيِّ أَوْلَى، مَا لَمْ يَكُنْ جَمْعًا.
وَأَمَّا غَيْرُ الْحَقِيقِيّ: فَالْحَذْفُ فِيهِ مَعَ الْفَصْلِ أَحْسَنُ، نَحْوَ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الْبَقَرَة: 275]، {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 13] فَإِنْ كَثُرَ الْفَصْلُ ازْدَادَ حُسْنًا، نَحْوَ: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هُودٍ: 67] وَالْإِثْبَاتُ أَيْضًا حَسُنَ نَحْوَ: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هُودٍ: 94] فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَرْجِيحِ الْحَذْفِ. وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّمَهُ عَلَى الْإِثْبَاتِ، حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا.
وَيَجُوزُ الْحَذْفُ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ الْفَصْلِ حَيْثُ الْإِسْنَادُ إِلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنْ كَانَ إِلَى ضَمِيرِهِ امْتَنَعَ.
وَحَيْثُ وَقَعَ ضَمِيرٌ أَوْ إِشَارَةٌ بَيْنَ مُبْتَدَإٍ وَخَبَرٍ، أَحَدُهُمَا مُذَكَّرٌ وَالْآخَرُ مُؤَنَّثٌ، جَازَ فِي الضَّمِيرِ وَالْإِشَارَةِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الْكَهْف: 98]. فَذُكِّرَ وَالْخَبَرُ مُؤَنَّثٌ، لِتَقَدُّمِ الْمُبْتَدَإِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [الْقَصَص: 32] ذُكِّرَ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ الْيَدُ وَالْعَصَا، وَهُمَا مُؤَنَّثَانِ لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ وَهُوَ بُرْهَانَانِ.
وَكُلُّ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ يَجُوزُ فِيهَا التَّذْكِيرُ حَمْلًا عَلَى الْجِنْسِ، وَالتَّأْنِيثُ حَمْلًا عَلَى الْجَمَاعَةِ، كَقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الْحَاقَّة: 7]، {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [الْقَمَر: 20]. {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [الْبَقَرَة: 70] وَقُرِئَ: {تَشَابَهَتْ}. {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [الْمُزَّمِّل: 18]. {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الِانْفِطَار: 1].
وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يُونُسَ: 22]. {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} [الْأَنْبِيَاء: 81].
وَقَدْ سُئِلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النَّحْل: 36]. وَقوله: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الْأَعْرَاف: 30].
وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِوَجْهَيْن:
لَفْظِيٌّ: وَهُوَ كَثْرَةُ حُرُوفِ الْفَاصِلِ فِي الثَّانِي، وَالْحَذْفُ مَعَ كَثْرَةِ الْحَوَاجِزِ أَكْثَرُ.
وَمَعْنَوِيٌّ: وَهُوَ أَنَّ (مَنْ) فِي قوله: {مَنْ حَقَّتْ} رَاجِعَةٌ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لَفْظًا، بِدَلِيل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النَّحْل: 36] أَيْ: مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ، وَلَوْ قَالَ: (ضَلَّتْ) لَتَعَيَّنَتِ التَّاءُ، وَالْكَلَامَانِ وَاحِدٌ، وَإِذَا كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا كَانَ إِثْبَاتُ التَّاءِ أَحْسَنَ مِنْ تَرْكِهَا؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِيمَا هُوَ مِنْ مَعْنَاهُ، وَأَمَّا {فَرِيقًا هَدَى}. الْآيَةَ، فَالْفَرِيقُ يُذَكَّرُ، وَلَوْ قَالَ (فَرِيقٌ ضَلُّوا) لَكَانَ بِغَيْرِ تَاءٍ. وَقَوْلُهُ: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} فِي مَعْنَاهُ فَجَاءَ بِغَيْرِ تَاءٍ وَهَذَا أُسْلُوبٌ لَطِيفٌ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ أَنْ يَدَعُوا حُكْمَ اللَّفْظِ الْوَاجِبَ فِي قِيَاسِ لُغَتِهِمْ- إِذَا كَانَ فِي مَرْتَبَةِ كَلِمَةٍ لَا يَجِبُ لَهَا ذَلِكَ الْحُكْمُ.

.قَاعِدَةٌ: فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ:

اعْلَمْ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَقَامًا لَا يَلِيقُ بِالْآخَر:
أَمَّا التَّنْكِيرُ فَلَهُ أَسْبَابٌ:
أَحَدُهَا: إِرَادَةُ الْوَحْدَةِ نَحْوَ: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [الْقَصَص: 20] أَيْ: رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَ{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزُّمَر: 29].
الثَّانِي: إِرَادَةُ النَّوْعِ نَحْوَ: {هَذَا ذِكْرُ} [ص: 49] أَيْ: نَوْعٌ مِنَ الذِّكْرِ. {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [الْبَقَرَة: 7] أَيْ: نَوْعٌ غَرِيبٌ مِنَ الْغِشَاوَةِ لَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ، بِحَيْثُ غَطَّى مَا لَا يُغَطِّيهِ شَيْءٌ مِنَ الْغِشَاوَاتِ. {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [الْبَقَرَة: 96] أَيْ: نَوْعٍ مِنْهَا، وَهُوَ الِازْدِيَادُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْحِرْصَ لَا يَكُونُ عَلَى الْمَاضِي وَلَا عَلَى الْحَاضِرِ.
وَيَحْتَمِلُ الْوَحْدَةَ وَالنَّوْعِيَّةَ مَعًا قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النُّور: 45] أَيْ: كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَاءِ، وَكُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الدَّوَابِّ مِنْ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النُّطَفِ.
الثَّالِثُ: التَّعْظِيمُ: بِمَعْنَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُعَيَّنَ وَيُعْرَفَ، نَحْوَ: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} [الْبَقَرَة: 279] أَيْ: بِحَرْبٍ أَيِّ حَرْبٍ {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الْبَقَرَة: 10]. {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} [مَرْيَمَ: 15]، {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصَّافَّات: 109]. {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [الْبَقَرَة: 25].
الرَّابِعُ: التَّكْثِيرُ نَحْوَ: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} [الشُّعَرَاء: 41] أَيْ: وَافِرًا جَزِيلًا.
وَيَحْتَمِلُ التَّعْظِيمَ وَالتَّكْثِيرَ مَعًا، نَحْوَ: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} [فَاطِرٍ: 4] أَيْ: رُسُلٌ عِظَامٌ ذَوُو عَدَدٍ كَثِيرٍ.
الْخَامِسُ: التَّحْقِيرُ: بِمَعْنَى انْحِطَاطِ شَأْنِهِ إِلَى حَدٍّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَرَّفَ، نَحْوَ: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} [الْجَاثِيَة: 32] أَيْ: ظَنًّا حَقِيرًا لَا يُعْبَأُ بِهِ، وَإِلَّا لَاتَّبَعُوهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْدَنُهُمْ، بِدَلِيل: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الْأَنْعَام: 116]. {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عَبَسَ: 18] أَيْ: مِنْ شَيْءٍ حَقِيرٍ مَهِينٍ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِه: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ} [عَبَسَ: 19].
السَّادِسُ: التَّقْلِيلُ نَحْوَ: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التَّوْبَة: 72] أَيْ: رِضْوَانٌ قَلِيلٌ مِنْهُ أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّاتِ؛ لِأَنَّهُ رَأْسُ كُلِّ سَعَادَةٍ.
قَلِيلٌ مِنْكَ يَكْفِينِي وَلَكِنْ ** قَلِيلُكَ لَا يُقَالُ لَهُ قَلِيلُ

وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الْإِسْرَاء: 1] أَيْ: لَيْلًا قَلِيلًا، أَيْ: بَعْضَ لَيْلٍ.
وَأُورِدَ عَلَيْه: أَنَّ التَّقْلِيلَ رَدُّ الْجِنْسِ إِلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، لَا تَنْقِيصُ فَرْدٍ إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَأَجَابَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّيْلَ حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِ اللَّيْلَةِ، بَلْ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا يُسَمَّى لَيْلًا.
وَعَدَّ السَّكَّاكِيُّ مِنَ الْأَسْبَاب: أَلَّا يُعْرَفَ مِنْ حَقِيقَتِهِ إِلَّا ذَلِكَ، وَجَعَلَ مِنْهُ أَنْ تَقْصِدَ التَّجَاهُلَ، وَأَنَّكَ لَا تُعَرِّفُ شَخْصَهُ، كَقَوْلِكَ: هَلْ لَكَ فِي حَيَوَانٍ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ يَقُولُ: كَذَا؟ وَعَلَيْهِ مِنْ تَجَاهُلِ الْكُفَّار: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} [سَبَإٍ: 7] كَأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ.
وَعَدَّ غَيْرُهُ مِنْهَا قَصْدَ الْعُمُومِ، بِأَنْ كَانَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، نَحْوَ: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [الْبَقَرَة: 2] {فَلَا رَفَثَ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 197].
أَوِ الشَّرْطِ، نَحْوَ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التَّوْبَة: 6].
أَوِ الِامْتِنَانِ، نَحْوَ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الْفُرْقَان: 48].
وَأَمَّا التَّعْرِيفُ فَلَهُ أَسْبَابٌ:
فَبِالْإِضْمَار: لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ التَّكَلُّمِ أَوِ الْخِطَابِ أَوِ الْغَيْبَةِ.
وَبِالْعَلَمِيَّة: لِإِحْضَارِهِ بِعَيْنِهِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ ابْتِدَاءً بِاسْمٍ مُخْتَصٍّ بِهِ، نَحْوَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الْإِخْلَاص: 1]. {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الْفَتْح: 29].
أَوْ لِتَعْظِيمٍ أَوْ إِهَانَةٍ، حَيْثُ عِلْمُهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَمِنَ التَّعْظِيم: ذِكْرُ يَعْقُوبَ بِلَقَبِهِ إِسْرَائِيلَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ بِكَوْنِهِ صَفْوَةَ اللَّهِ، أَوْ سَرِيَّ اللَّهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي مَعْنَاهُ فِي الْأَلْقَابِ. وَمِنَ الْإِهَانَةِ قَوْلُهُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [الْمَسَد: 1] وَفِيهِ أَيْضًا نُكْتَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ الْكِنَايَةُ عَنْ كَوْنِهِ جَهَنَّمِيًّا.
وَبِالْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ بِإِحْضَارِهِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ حِسًّا، نَحْوَ: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لُقْمَانَ: 11].
وَلِلتَّعْرِيضِ بِغَبَاوَةِ السَّامِع: حَتَّى أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ لَهُ الشَّيْءُ إِلَّا بِإِشَارَةِ الْحَسِّ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَصْلُحُ لِذَلِكَ.
وَلِبَيَانِ حَالِهِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، فَيُؤْتَى فِي الْأَوَّل: بِنَحْو: هَذَا، وَفِي الثَّانِي: بِنَحْو: ذَلِكَ وَأُولَئِكَ.
وَلِقَصْدِ تَحْقِيرِهِ بِالْقُرْبِ، كَقَوْلِ الْكُفَّارِ {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الْأَنْبِيَاء: 36]، {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الْفُرْقَان: 41]، {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [الْبَقَرَة: 26] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [الْعَنْكَبُوت: 64].
وَلِقَصْدِ تَعْظِيمِهِ بِالْبُعْدِ، نَحْوَ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [الْبَقَرَة: 2] ذَهَابًا إِلَى بُعْدِ دَرَجَتِهِ.
وَلِلتَّنْبِيهِ- بَعْدَ ذِكْرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِأَوْصَافٍ قَبْلَهُ- عَلَى أَنَّهُ جَدِيرٌ بِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ أَجْلِهَا، نَحْوَ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْبَقَرَة: 5].
وَبِالْمَوْصُولِيَّةِ، لِكَرَاهَةِ ذِكْرِهِ بِخَاصِّ اسْمِهِ، إِمَّا سَتْرًا عَلَيْهِ، أَوْ إِهَانَةً لَهُ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَيُؤْتَى بِالَّذِي وَنَحْوِهَا مَوْصُولَةً بِمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، نَحْوَ: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الْأَحْقَاف: 17]. {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} [يُوسُفَ: 23].
وَقَدْ يَكُونُ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ، نَحْوَ: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الْآيَةَ [فُصِّلَتْ: 30]. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [الْعَنْكَبُوت: 69]. {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ} [غَافِرٍ: 60].
وَلِلِاخْتِصَارِ، نَحْوَ: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الْأَحْزَاب: 69] أَيْ: قَوْلُهُمْ إِنَّهُ آدَرُ؛ إِذْ لَوْ عَدَّدَ أَسْمَاءَ الْقَائِلِينَ لَطَالَ؛ وَلَيْسَ لِلْعُمُومِ؛ لَأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا فِي حَقِّهِ ذَلِكَ.
وَبِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَعْهُودٍ خَارِجِيٍّ أَوْ ذِهْنِيٍّ أَوْ حُضُورِيٍّ.
وَلِلِاسْتِغْرَاقِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، أَوْ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ؛ وَقَدْ مَرَّتْ أَمْثِلَتُهَا فِي نَوْعِ الْأَدَوَاتِ.
وَبِالْإِضَافَةِ لِكَوْنِهَا أَخْصَرَ طَرِيقٍ، وَلِتَعْظِيمِ الْمُضَافِ، نَحْوَ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الْحِجْر: 42]. {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزُّمَر: 7] أَي: الْأَصْفِيَاءُ فِي الْآيَتَيْنِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ.
وَلِقَصْدِ الْعُمُومِ، نَحْوَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النُّور: 63] أَيْ: كُلَّ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَائِدَةٌ:
سُئِلَ عَنْ الْحِكْمَةِ فِي تَنْكِيرِ (أَحَدٌ) وَتَعْرِيفِ (الصَّمَدُ) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الْإِخْلَاص: 1- 2] وَأَلَّفْتُ فِي جَوَابِهِ تَأْلِيفًا مُودَعًا فِي الْفَتَاوَى، وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةً:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ نُكِّرَ لِلتَّعْظِيمِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ- وَهُوَ الذَّاتُ الْمُقَدَّسَةُ- غَيْرُ مُمْكِنٍ تَعْرِيفُهَا وَالْإِحَاطَةُ بِهَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ (أَلْ) عَلَيْهِ كَغَيْرٍ وَكُلٍّ وَبَعْضٍ، وَهُوَ فَاسِدٌ، فَقَدْ قُرِئَ شَاذًّا: (قُلْ هُوَ اللَّهُ الْأَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ)، حَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الزِّينَةِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ.
الثَّالِثُ: وَهُوَ مِمَّا خَطَرَ لِي: أَنَّ (هُوَ) مُبْتَدَأٌ وَ(اللَّهُ) خَبَرٌ، وَكِلَاهُمَا مَعْرِفَةٌ، فَاقْتَضَى الْحَصْرَ، فَعُرِفَ الْجُزْآنِ فِي (اللَّهُ الصَّمَدُ) لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، لِيُطَابِقَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى، وَاسْتُغْنِيَ عَنْ تَعْرِيفِ (أَحَدٌ) فِيهَا لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ دُونَهُ، فَأُتِيَ بِهِ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ التَّنْكِيرِ، عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ. وَإِنْ جُعِلَ الِاسْمُ الْكَرِيمُ مُبْتَدَأً وَ(أَحَدٌ) خَبَرَهُ: فَفِيهِ مِنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مَا فِيهِ مِنَ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، فَأَتَى بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى نَحْوِ الْأُولَى بِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ لِلْحَصْرِ تَفْخِيمًا وَتَعْظِيمًا.

.قَاعِدَةٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِير:

إِذَا ذُكِرَ الِاسْمُ مَرَّتَيْنِ، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْرِفَتَيْنِ، أَوْ نَكِرَتَيْنِ، أَوِ الْأَوَّلُ نَكِرَةً وَالثَّانِي مَعْرِفَةً، أَوْ بِالْعَكْسِ.
فَإِنْ كَانَا مَعْرِفَتَيْن: فَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ غَالِبًا، دَلَالَةً عَلَى الْمَعْهُودِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَصْلِ فِي اللَّامِ أَوِ الْإِضَافَةِ، نَحْوَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَتْ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الْفَاتِحَة: 6- 7]، {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}، {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزُّمَر: 2- 3]، {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ} [الصَّافَّات: 158]، {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ}، {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غَافِرٍ: 36- 37].
وَإِنْ كَانَا نَكِرَتَيْن: فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ غَالِبًا، وَإِلَّا لَكَانَ الْمُنَاسِبُ هُوَ التَّعْرِيفُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَعْهُودًا سَابِقًا، نَحْوَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الرُّوم: 54] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالضَّعْفِ الْأَوَّلِ النُّطْفَةُ، وَبِالثَّانِي الطُّفُولِيَّةُ، وَبِالثَّالِثِ الشَّيْخُوخَةُ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سَبَإٍ: 12]: الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ لَفْظِ الشَّهْرِ الْإِعْلَامُ بِمِقْدَارِ زَمَنِ الْغُدُوِّ وَزَمَنِ الرَّوَاحِ، وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَأْتِي مُبَيِّنَةً لِلْمَقَادِيرِ لَا يَحْسُنُ فِيهَا الْإِضْمَارُ، وَلَوْ أُضْمِرَ فَالضَّمِيرُ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَا تَقَدَّمَ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِيَّتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَجَبَ الْعُدُولُ عَنِ الْمُضْمَرِ إِلَى الظَّاهِرِ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ الْقِسْمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشَّرْح: 5- 6] فَالْعُسْرُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْيُسْرُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَة: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ».
وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ نَكِرَةً وَالثَّانِي مَعْرِفَةً فَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ حَمْلًا عَلَى الْعَهْدِ، نَحْوَ: {أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [الْمُزَّمِّل: 15- 16]، {فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ} [النُّور: 35]. {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشُّورَى: 52- 53]، {مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ} [الشُّورَى: 41- 42].
وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مَعْرِفَةً وَالثَّانِي نَكِرَةً، فَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ، بَلْ يُتَوَقَّفُ عَلَى الْقَرَائِن: فَتَارَةً تَقُومُ قَرِينَةٌ عَلَى التَّغَايُرِ، نَحْوَ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الرُّوم: 55]، {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا} [النِّسَاء: 153]، {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى} [غَافِرٍ: 53- 54] قَالَ: الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ جَمِيعُ مَا أَتَاهُ مِنَ الدِّينِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالشَّرَائِعِ، وَ(الْهُدَى) إِرْشَادًا. وَتَارَةً تَقُومُ قَرِينَةٌ عَلَى الِاتِّحَادِ، نَحْوَ: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزُّمَر: 27- 28].
تَنْبِيهٌ:
قَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ وَغَيْرِه: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ غَيْرُ مُحَرَّرَةٍ، فَإِنَّهَا مُنْتَقَضَةٌ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ:
مِنْهَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّل: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرَّحْمَن: 60]: فَإِنَّهُمَا مَعْرِفَتَانِ وَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ الْعَمَلُ وَالثَّانِيَ الثَّوَابُ. {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أَي: الْقَاتِلَةَ بِالْمَقْتُولَةِ، وَكَذَا سَائِرُ الْآيَةِ. {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 178]. {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} ثُمَّ قَالَ: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الْإِنْسَان: 1- 2] فَإِنَّ الْأَوَّلَ آدَمُ وَالثَّانِيَ: وَلَدُهُ.
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الْعَنْكَبُوت: 47] فَإِنَّ الْأَوَّلَ الْقُرْآنُ، وَالثَّانِيَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ.
وَمِنْهَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزُّخْرُف: 84]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [الْبَقَرَة: 217]. فَإِنَّ الثَّانِيَ فِيهِمَا هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُمَا نَكِرَتَانِ.
وَمِنْهَا فِي الْقِسْمِ الثَّالِث: {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النِّسَاء: 128]. {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هَوَّدَ: 3]. {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هُودٍ: 52]. {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الْفَتْح: 4]. {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النَّحْل: 88]. {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ} [يُونُسَ: 36]. فَإِنَّ الثَّانِيَ فِيهَا غَيْرُ الْأَوَّلِ.
وَأَقُولُ: لَا انْتِقَاضَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ؛ فَإِنَّ اللَّامَ فِي الْإِحْسَانِ لِلْجِنْسِ فِيمَا يَظْهَرُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ.
وَكَذَا آيَةُ النَّفْسِ وَالْحُرِّ بِخِلَافِ آيَةِ الْعُسْرِ؛ فَإِنَّ (أَلْ) فِيهَا إِمَّا لِلْعَهْدِ أَوْ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا يُفِيدُهُ الْحَدِيثُ.
وَكَذَا آيَةُ الظَّنِّ، لَا نُسَلِّمُ فِيهَا أَنَّ الثَّانِيَ فِيهَا غَيْرُ الْأَوَّل:، بَلْ هُوَ عَيْنُهُ قَطْعًا؛ إِذْ لَيْسَ كُلُّ ظَنِّ مَذْمُومًا، كَيْفَ وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ ظَنِّيَّةٌ.
وَكَذَا آيَةُ الصُّلْحِ، لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ، وَهُوَ الَّذِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَاسْتِحْبَابُ الصُّلْحِ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ وَمِنَ الْآيَةِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، بَلْ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَأَنَّ كُلَّ صُلْحٍ خَيْرٌ؛ لِأَنَّ مَا أَحَلَّ حَرَامًا مِنَ الصُّلْحِ أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ.
وَكَذَا آيَةُ الْقِتَال: لَيْسَ الثَّانِي فِيهَا عَيْنَ الْأَوَّلِ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ الْقِتَالُ الَّذِي وَقَعَ فِي سَرِيَّةِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، لِأَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالْمُرَادَ بِالثَّانِي جِنْسُ الْقِتَالِ لَا ذَاكَ بِعَيْنِهِ.
وَأَمَّا آيَةُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} [الزُّخْرُف: 84] فَقَدْ أَجَابَ عَنْهَا الطَّيْبِيُّ: أَنَّهَا مِنْ بَابِ التَّكْرِيرِ؛ لِإِفَادَةِ أَمْرٍ زَائِدٍ، بِدَلِيلِ تَكْرِيرِ ذِكْرِ الرَّبِّ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِه: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ} [الزُّخْرُف: 82]. وَوَجْهُهُ الْإِطْنَابُ فِي تَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَشَرْطُ الْقَاعِدَةِ أَلَّا يُقْصَدَ التَّكْرِيرُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ فِي آخِرِ كَلَامِه: إِنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ الِاسْمِ مَرَّتَيْنِ كَوْنُهُ مَذْكُورًا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ أَوْ كَلَامَيْنِ بَيْنَهُمَا تَوَاصُلٌ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا: مَعْطُوفًا عَلَى الْآخَرِ، وَلَهُ بِهِ تَعَلُّقٌ ظَاهِرٌ وَتَنَاسُبٌ وَاضِحٌ، وَأَنْ يَكُونَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ. وَدَفَعَ بِذَلِكَ إِيرَادَ آيَةِ الْقِتَالِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهَا مَحْكِيٌّ عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ، وَالثَّانِيَ مَحْكِيٌّ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.